قصص وروايات

رواية بشر بنكهة الخنازير

القصة القصيرة  بشر بنكهة الخنازير

بقلم/خلود عاشور

بشر بنكهة الخنازير

كانت الشمس قد قاربت على الغروب، وكنت أراقب مشهدها من شاطئ البحر في بقعة أعشق الجلوس فيها، كانت ماء البحر، وكأنها بلون الدماء قد تخضبت، من شدة اقتراب الشمس بلون الشفق الإحمراري منها، لا أعلم إن كانت الماء هكذا دومًا، أما أنها أصرت اليوم على المرور على مؤخرة رأسي حيث تكمن الذكريات، والتفيش بها، ثم الخروج بذكرى تتشابه بعض الشئ مع الواقعي الحاضر، لتُقلب عليّ ما أسعى لدفنه بكل ما اؤتيت من قوة…. اصمت، ودعنيّ اقص عليك ماضٍ منذ نيف سنين؛ كنت وقتها في التاسعة عشر من عمري.

أبي مهندس زراعي، يملك محل يخص عمله، يدّر عليه دخل لا بأس به، وموظف بشهادته في وظيفة حكومية لا بأس إن لم يتقاضى عليها راتب، فهذا لن يزيد أو ينقص من مستوى رفاهيتنا شئ، وأبي رجل لا بأس من أخلاقه، رجل عادي، ليس شرير، ولكنه ليس فائق الطيبة ولكن على كل حال لا ضرر منه، وأمي ربة منزل، ولا تعبئ بشئ سوى المنزل، ولا يؤرقها شئ سوى زيادة سعر اللحمة، أو شحاح الأرز بالسوق.

أما أنا فطالبة لعلم النفس، ولست متوقفة على دراستي فقط، ولي أخ سعى أبي في بناء بيت له خاص وليته لم يفعل!
إذ نحن جلّوسٌ بالبيت الذي يُبنى لأخى ليكن خاصًا به، إذ دخل علينا رجل عيناه كقمران، وجهه وكأن الشمس تشرق به إذا ما تَبَسْم، وتزول من العالم إذا ما أُغضب، فهو لا يغضب بنفسه أبدًا، دوما هناك من يُغضبه….

-مهلا مهلا، فهذا القص ليس رومانسي مطلقا، وليس سرد لمقابلة بيني وبين فتى أحلامي أبدًا، ولكنه قص لذكريات تقبع برأسي مؤلمة، ولكنها بالنسبة لك قد لا تعتبر كذلك- كان الرجل مع جارٍ لنا، قدمه الرجل لنا أنه ذو مرض عضال، ذاك الذي لم يذهب إلا بذهاب العقل! والبقاء بدونه، فلا تعقل بعدها شيئًا أبدًا، وكما يرميك حظك مع البشر

فإن وقعت مع بشر بنكهة الإنسانية فخطبك ومصيبتك يخف وطأها بعض الشئ – ولكنها على كل حال ستظل مصيبة – ، أما إن رمت أمواج ومجاديف الأقدار إلى بشر تختلف عن الحيوانية فقط بوجه وسيم- وإنه لظلم للحيوانية تشبيههم بها- فذاك العذاب على الأرض، كالتنمر والسخرية مِنْ مَنْ اختلف بأي شكل من الأشكال عنا شكلا ونفسًا، لأننا نخشى الاختلاف، فننتقضه!

المهم؛ قيل عنه أنه يستطيع القيام بأي واجب يُسند إليه أمام مبلغ زهيد من المال، وبعض اللقيمات البسيطة لسد جوعه، وهو لا خوف منه على أهله، يُمْكنهن العمل معه بلا أي ظنٍ سئ، فهو بعالمٍ غير العالم، وأيضًا لا يسعه الكلام بفصاحة، فذهاب عقله لَعْثم لسانه، ولكن لسانه ينطق ببعض الأحرف معبرًا عما يستطيع بعض الشئ، ولكن يلزمه مترجم! ، وهو ليس ابن البلدة غريبٌ عنها، في عامه الخامس والعشرين، ولا ندري له أهلًا .

شاهد:رواية عالم آخر
تبسم أبي ودعاه للعمل مع القائمين على العمل بالبيت المُشَرّع في البناء فيه لأخي.
مرت الأيام، ولم يكن لقائي به كثير، بحكم تدليلي المُوجب عدم المشاركة في أي عمل إلا اليسير برغبتي، لم يكن المقابلة معه الكثير، ولكن كان ثمة شئ غريب يحتج عقلي حين النظر إليه، ثمة شعور أن هناك ما يخفيه، أن هناك حبكة في الأحداث الدرامية، في تسير أموره معنا، أنه ليس كما يُصور نفسه لنا، أن وراءه سرٌ عظيم، أنه.

أنه يُجيد التمثيل والحبكة الدرامية.
قادني الفضول في طريقه، حتى كاد وقارب على الفتك بي، لم يدعني من طريقه، أو يمهلني التفكير في صواب طريقه الذي يدفعني للبحث فيما يريد فقط قادني الفضول، ولا فرار من هذا!
خطوت على مهل، ووقفت أمامه، وهمست بجواره: سأزورك الليلة أنا وأخي في مبيتك، أريد الاتفاق معك على مهمة لتنجزها.
سال لعابه وهو يجيب بالموافقة، ولكن لمحت عيناي شك في عيناه يُوشيان بما يدور في خلجات نفسي، فلملمت بعضي ببعضي وهرولت من أمامه، وفضولي يُصر على لقائي الموعود معه.
غربت الشمس واستعددت للقاء أنا وأخي في مبنى أخي الجدبد المُوشك على الإنتهاء ، صراحة لا أعلم أصواب ما فعلت أم الخطأ ذاته !

جلس أمامي، واسترخى، ولأرهاقه من العمل، تمدد رغمًا عنه، فبرقت بذهني فكرة درستها ” التنويم المغناطيسي ” رغم أنني لم أنوي ممارستها عليه، كنت أنوي التحقيق معه وإجباره بكثرة الأسئلة كما تعلم أخي بجامعته، أو حتى إظهار تلعثم في عيناه تؤكد شكِ، ولكنه اختصر المسافة عليّ جدا، وساعدني ثقته بنا لحُسن تعاملنا معه في الفترة المنصرمة معنا له.
مارست التنويم المغناطيسي بسهولة لرغبته- تقريبا- في القص….!

قال ” كنت عضوا في مجلس المدينة عن قريتي، تزوجت بامرأة توسمت فيها خيرًا، وكانت أفضل مما أظن، أنجبنا ابنة كانت تشرق شمسي بصحوها، ولم نستطع الإنجاب بعدها، يشهد ربي عليّ أني ما قصدني صعلوك أو حتى لقيط إلا وأكرمته وأجزالت له العطاء المعنوي والمادي، ولكن كانت قريتي بشر بنكهة خنازير، بنكهة بهائم قاسة القلوب، ولأنني بقريتي معروف كانت ابنتي معروفة تَبَعًا، ابنتي الشبيهة بملاك بنظري، والشيطان بنظر البهائم والخنازير، ظلوا يبينون عيبوبها، ويتصدون لها أفضل أوقاتها ليتضاحكوا فيما بينهم على ملامحها، وتجاوزوا هذا الحد إلى منادتها بألفاظهم على سبيل الضحك في أسعد أوقاتها لتتفحم أسفل دموعها!

كانت كتومة جدا، ظلت تكبت في نفسها من سخرية الناس، وسخرية أصدقائها، وظلت تتحاشى الخروج من بيت بمفردها خشية دعس قلبها بجرارات بذائتهم، ما كان أحد يستطع التفوه بحرف يؤذيها في حضرتي، ولكني دائم الانشغال، ولحرصها على التفوق كانت مضطرة للخروج، ومجابهة الألم والتغلب عليه…. وكيف هذا وهي ابنة العاشرة!
وفي ليلة لا قمر فيها ولا ضئ وجدتها بغرفتها متجمدة، جسدها أبرد من الثلج، وعند الفحص الطبي قيل … قيل
….. وافتها المنية لسكتة قلبية مفاجئة لحزن دفين!

قضيت أسوء أيامي، فقد كانت أجمل ما بحياتي، قد كانت سبب بقائي على قيد حياة…. وذات ليلة دخلت غرفتها للَثم عطرها فيها، فوجدت مذكرات لها، كتبتها بيديها الصغيرتين
وما عرفت بذائة فعلهم إلا من كتاباتها…. فقررت… فقررت الأخذ بثأر ابنتي، فأحرقت القرية كاملة، وتركتهم خلفي مشوهين ليذوقوا ما أذاقوه لابنتي!
ثم أفاق من تنويمه، وأكمل بلسانه المتعلثم” وسأحرق كل من أذاني في نفسي لإعاقتي المتصنعة!
وليتني لم اقابله! فمشهد الثأر خضب القرية بلون الدماء!

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!